آراء حرة

ماهية الحقيقة: بين الإدراك الإنساني والواقع الموضوعي

 

بقلم الدكتور ناصر الجندي

تُعدّ الحقيقة من المفاهيم الفلسفية الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل، إذ شغلت فكر الفلاسفة على مر العصور، بدءًا من الإغريق القدماء وصولًا إلى الفكر المعاصر. تُطرح أسئلة كثيرة حول ماهية الحقيقة: هل هي مطلقة أم نسبية؟ وهل الحقيقة موضوعية ومستقلة عن الإنسان، أم أنها مرتبطة بإدراكنا وتصوراتنا للواقع؟

الحقيقة والواقع الموضوعي
يُشير الواقع الموضوعي إلى وجود مستقل للحقيقة عن إدراك الإنسان أو تفسيراته. وفقًا لهذا المنظور، توجد الحقيقة ككيان موضوعي ثابت لا يتغير بتغير الظروف أو الأفراد. تُمثّل المدرسة الواقعية هذا الاتجاه بوضوح؛ حيث يرى أرسطو أن الحقيقة تُعبّر عن تطابق الفكر مع الواقع، أي أن الحكم يكون صادقًا إذا عبّر عن الشيء كما هو عليه في الواقع.
مثال ذلك: “الشمس تشرق من الشرق” هي حقيقة موضوعية لا ترتبط بمشاعرنا أو بمفاهيمنا الشخصية. هذا النوع من الحقائق يعبّر عن ثوابت كونية تُوجد بمعزل عن أي إدراك بشري.
لكن يواجه هذا التصور تحديًا كبيرًا؛ فإذا كانت الحقيقة مستقلة عن الإنسان، كيف يمكن لنا الوصول إليها بوسائل إدراكية محدودة؟ وهنا يظهر دور الإدراك البشري وتأثيره على الحقيقة.

الإدراك الإنساني: هل يُشوّه الحقيقة؟
يُجادل الفلاسفة المثاليون بأن الحقيقة ليست شيئًا موضوعيًا، بل هي بناء ذهني يعتمد على إدراك الإنسان وتفسيره للواقع. فقد قال إيمانويل كانط إن الإنسان لا يرى الأشياء كما هي في ذاتها، بل كما تنعكس في ذهنه عبر الحواس والعقل. بالتالي، الحقيقة في نظره نسبية؛ لأنها تعتمد على إطارنا المعرفي وقدرتنا على الفهم.
يرتبط هذا التصور بمقولة “كل إنسان يرى الحقيقة من زاويته الخاصة”. فالاختلاف بين الأفراد في تفسير حدث ما أو تجربة معينة يُظهر أن الحقيقة ليست ثابتة، بل تتلون بطبيعة الأفراد وخلفياتهم الفكرية والثقافية.
على سبيل المثال، لوحة فنية قد يراها شخص على أنها تعبير عن الحزن، بينما يراها آخر كتجسيد للأمل. هنا، لا تُوجد حقيقة واحدة، بل حقائق متعددة، تُبنى على إدراك كل فرد.

التوتر بين الموضوعية والنسبية
يجمع بعض المفكرين بين هذين الاتجاهين (الموضوعية والنسبية) من خلال القول إن هناك حقائق موضوعية ثابتة، لكن الوصول إليها يتطلب جهدًا معرفيًا وتفسيرًا بشريًا. هذا التفسير قد يكون عرضة للخطأ أو التشويه.
من هنا، تُطرح مسألة “نسبية الحقيقة” التي نادى بها الفيلسوف نيتشه، إذ يرى أن الحقيقة ما هي إلا منظور أو تأويل، وليست جوهرًا ثابتًا. وفقًا لهذا الاتجاه، فإن الحقيقة تتغير بتغير الزمن والثقافة والسلطة الفكرية المسيطرة.

الحقيقة في عصر ما بعد الحداثة
في العصر الحديث، ومع ظهور تيار ما بعد الحداثة، أصبحت الحقيقة أكثر تعقيدًا. يرى مفكرو هذا التيار مثل ميشيل فوكو أن الحقيقة مرتبطة بالسلطة والخطاب السائد، وأنها ليست محايدة كما نعتقد. فكل “حقيقة” تُطرح في المجتمع تخدم مصالح معينة وتُرسّخ أنظمة فكرية أو سياسية محددة.
على سبيل المثال، الحقائق العلمية، رغم دقتها، تخضع أحيانًا للهيمنة الاقتصادية أو السياسية. فهل ما يُقدّم على أنه “حقيقة” هو بالفعل كذلك أم مجرد انعكاس لمصالح معينة؟

بين البحث عن الحقيقة والتساؤل الدائم
إن البحث عن الحقيقة هو رحلة مستمرة، لأنها تتراوح بين كونها موضوعية ونسبية. ربما تكون الحقيقة الكاملة بعيدة المنال، لكن إدراك أبعادها المختلفة يُعدّ خطوة نحو فهم أعمق للوجود.
يبقى السؤال الفلسفي مطروحًا: هل نعيش في عالم من الحقائق المطلقة، أم أننا محكومون بنسخ متعددة من الحقيقة تُشكّلها حواسنا وتصوراتنا المحدودة؟
مهما اختلفت الإجابات، فإن جوهر الفلسفة هو الاستمرار في التساؤل، لأن البحث عن الحقيقة هو ما يُثري الفكر الإنساني ويُبقيه حيًا.

#

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *