آخر الأخبارآراء حرة

ديوان “مواويلُ عشقٍ وشجن” للشاعرة التونسية كريمة الحسيني

الوجدان والشعر .. الوجود العاطفي وعلاقة الحب بالطبيعة

د. طارق العريفي يكتب:

ديوان “مواويلُ عشقٍ وشجن” للشاعرة التونسية كريمة الحسيني

الوجدان والشعر .. الوجود العاطفي وعلاقة الحب بالطبيعة

دراسة نقدية وجدانية في شعر العشق

د. طارق العريفي

يمثل الشعر مرآةً للروح الإنسانية، إذ يعكس ما تختزنه النفس من مشاعر وأحاسيس، ويجسد تجاربها في كلمات تفيض بالوجد والتأمل. يأتي ديوان ” مواويلُ عشقٍ وشجن ” ليكون مساحة غنية للانغماس في الوجدانيات الإنسانية، حيث تتقاطع المشاعر العاطفية مع الصور الطبيعية، فتتحول الطبيعة إلى حالة شعورية تتأثر بالحب والفقد، بالوفاء والغدر، بالفراق واللقاء.

في هذه المجموعة الشعرية تتجلى قدرة الشاعرات والشعراء على ربط الحب بالطبيعة، فتصبح الأمطار والشتاء والصيف، والربيع والخريف، والجبال والسهول، والطيور والفراشات، ليست مجرد مظاهر من العالم الخارجي؛ بل تعبيرًا عن المشاعر الداخلية، مرآة للفرح والحزن معا، وسياقًا للأمل والعذاب. كما يكشف الديوان عن تباين التجارب الإنسانية في الحب، بين الوفاء والحنين والغدر، فيُضفي على النصوص ثراءً وجدانيًا وفكريًا، يجعل القارئ يتعايش مع كل حالة عاطفية، وكأن الشعر ينقل تجربة كاملة للحياة والوجود.

إن قراءة هذه القصائد تمنح المتلقي فرصة لفهم العلاقة الحميمة بين النفس والطبيعة، وكيف تتحول المشاعر الشخصية إلى لوحات شعرية نابضة بالحياة، تتراءى فيها ألوان الحب والفرح والحزن والفقد، وتكشف عن تعقيدات العلاقات الإنسانية وصدقها في مواجهة الزمن والغياب، وهي ترصد خلجات النفس وتحولاتها ، وليس هناك أقدر من فتاة عاشقة للتعبير عن فوضى الحواس تجاه موقف حب يظهر فجأة أمام عينيها، فتتلاطم أمواج عواطفها في بحر لا قرار له من رائحة قهوة تعبق في الأجواء، ونظرات مسترقة للعيون : يقابلني على المقعد/ رائحة القهوة تعبق/ وهج أنفاسه يقترب…./ من تحت نظاراته/ يسترق نظرة…/ أسترق نظرة../ ولا أكتفي/ بل أشتهي قبلة…/ تلتقي نظراتنا/فتحدث الفوضى.

وهذا ما يجعلها تشعر وكأنها طفلة ساذجة، تجري وراء الحب، ولا تدري كم امرأة غيرها سارت في هذا الدرب: كطفلة ساذجة/ أعدُّ النساء اللواتي/ يقفن على شعر رأسك/ يحرسن أفكارك/ يرتبن أنفاسك / ويغزلن لك/ حكايات منتصف الليل/ كيف لي أن أعبرهنّ

/ لأصل الى قلبك.

وبذلك تجد نفسها أسيرة مشاعرها التي طغت عليها وبالتالي فإنها أسيرة الحب الذي غمر قلبها: راكضة خلفك/ خلف أنفاسك/خلف آخر عناق/ وآخر قبلة وداع/ حررِّني منك لأنعم بنوم عميق/ وأجلس على الشاطئ/ دون أن أراك تراقص الموج/ وبين صفحات الرواية/ أجدك تعبث بالأحرف/ فتجعل من الحرب حبا/ ومن النهاية بداية.

ويشتد التوق إلى الحرية ويخرج مع الآهات صرخات مدوية إنها “صرخة الحرية” في وجه الحب، القيد، الأمانة، القلب العاشق:

مازلتُ أعبثُ بالكلماتِ/ وتعبثُ بيَّ المشاعرُ/ أسيرُ ليلاً في الطرقاتِ/ أبحثُ عن نفسي/ المسافرةُ بلا حدود/ تسكنني صرخة حرية / تجعلني أكسر كل القيود/لا تُحَمِّلني قلبك أمانة/ على كاهلي أحمال ثقيلة / سألقي بها مع أولِ نقطة عبورٍ / سأمزق أحلاميَ القديمةِ/ وأمضي.

كريمة الحسيني

 

هذه المشاعر وهذه الفوضى والصرخات العابثة تتمازج مع عشق وشجن تجاه الطبيعة الساحرة، التي تشعر بها النفس؛ بل تحياها وتحيا من خلالها؛ فإن كان لها يوم خاص بها فإن هذا اليوم هو يوم التماهي مع الطبيعة، مع النسيم، مع الجبال، مع البحر، إنها عناوين الحرية والانطلاق في حياة الشاعرة:

أنهض اليوم/لأرسم صباحا يليق بي/أفتح النافذة/أستنشق الندى/وشقشقة العصافير/قبل أن تغادر أعشاشها/تكبر رويدا رويدا/يا لهذا البهاء/تزيح الشمس/الجبل من أمامها/ليعم نورها/ما أجمل الضياء/سآخذ بعضي/وأجري إلى البحر/أركض حافية على الرمل/فهذا اليوم لي/سرقته من جدول السنة/المرسوم بالسحب.

هكذا تمتزج الطبيعة بالحرية بالحياة ويطيب فيها لون الحب الغامر، وهنا تتولد العلاقة الجدلية بين جمال الطبيعة والحياة وبين جمال الطبيعة والحب، فالحب يعطيها ألوانه، والفقد والوحدة تسحب منها تلك الألوان، وتصبغها بالألوان القاتمة، وهنا تبدأ مسيرتنا مع هذه الجدلية من خلال هذه القصيدة في “مواويل عشق وشجن”:

يسألني الشتاء عنك/وزخات المطر/وقلبي الحزين مني/ يكاد يفر/ وإن حطَ فرخٌ ينقر حبا /أُحمِّلهُ ملء الرسائل قبلا/يطير إليك بقلب مرفرف/يهديك شوقا وحبا/ ويخفق فوق رأسك /انهض/إن حبيبك قريبا يجنّ… /ميَت هذا الصباح/ الذي يطلع بدونك/ والجبال سوداء/ داهمتها السحب/ فسكت صوت الطيور/ واختفت الفراشات/ التي فقدت لونها/ ما بال كل الأمنيات اختصرت/ في النظر إليك/ دون خجل.

تبدأ الشاعرة بالربط بين مشاعرها وحالة الطبيعة، حيث يسألها الشتاء عن الحبيب، ويظهر المطر كرمز للحزن والحنين. هذه المقاربة تعكس أسلوبًا وجدانيًا داخليًا، إذ تتحوّل الأحاسيس الداخلية إلى صور طبيعية، وتصبح الطبيعة مرآة للشعور الداخلي. فالقلق والحزن الذي تشعر به الشاعرة بسبب الغياب يجعل قلبها “يكاد يفر”، في حركة استعارة قوية تدل على شدة الانفعال النفسي.

الطبيعة في القصيدة ليست مجرد خلفية؛ بل هي شريكة في التعبير عن المشاعر. المطر والشتاء يمثلان الحب والشوق معًا، وأحيانًا يمثلان الوحدة والفقد. تحوّل الجبال إلى سواد داكن مع غياب الحبيب يعكس الحزن العميق، الذي يخيّم على الشاعرة، وكأن السماء تتقاطر بألمها مثل قلبها الحزين.

وزخات المطر هي رمز للشوق والحب المتجدد، لكنها تحمل أيضًا حسرة لغياب الحبيب. أما عندما “سكت صوت الطيور” واختفت “الفراشات التي فقدت لونها”، فإننا نشهد تصويرًا رمزيًا للفقد العاطفي وتأثيره على كل مظاهر الحياة الجميلة؛ فالطبيعة هنا تتفاعل مع المشاعر، فهي تعكس الفراغ الداخلي والحزن النفسي.

وكذلك إن تصوير السحب الداكنة والجبال السوداء يعد تصويرا دراميا يرمز إلى كثافة الألم والغياب، وتحول الطبيعة إلى ما يشبه حالة الكآبة الداخلية لروح الشاعرة.

من هنا تنتج العلاقة بين الحب والطبيعة في وجدانيات النص الشعري؛ فالشاعرة تعيش الحب من خلال الطبيعة، وكل عنصر طبيعي يصبح مرآة لمشاعرها. المطر والشتاء ليسا مجرد فصول؛ بل أدوات وجدانية للتعبير عن الشوق، بينما غياب الحبيب يحوّل الطبيعة نفسها إلى مظاهر قاتمة وكئيبة، ويظهر ذلك في “الميت هذا الصباح” و”الجبال سوداء”. هذا يعكس كيف يمكن للحب أن يلون رؤية الإنسان للطبيعة، ويحوّلها بحسب حالته العاطفية.

ولكن رغم الحزن، هناك شعور بالحياة والأمل من خلال الطيور؛ فالطائر الصغير الذي “يطير إليك بقلب مرفرف ويهديك شوقًا وحبًا”، يشير إلى قدرة الحب على الإبداع في المشاعر، ويجعل النص الشعري يصوغ رسائل وجدانية تتجاوز الحزن، رغم أن الطبيعة تحاكي كآبة مبدعة النص.

يحمل الديوان في ثنايا خطاباته عموما، وهذه القصيدة خصوصا، بُعدًا نفسيًا عميقًا للغربة العاطفية؛ فالغياب يحوّل جمال الطبيعة إلى حالة من الفراغ والظلام. هذا الانعكاس يخلق تناقضًا وجدانيًا بين ما تحبه الشاعرة في الطبيعة (المطر والشتاء) وبين ما تتحول إليه هذه الطبيعة عند الفقد (سحب داكنة، جبال سوداء، طيور صامتة).

ومنه فإن الديوان يعكس تجربة وجدانية عاطفية متكاملة؛ حيث تتحوّل المشاعر الداخلية للحب والفقد إلى صور طبيعية حية. المطر والشتاء يمثلان الحب والشوق والحياة، بينما السحب الداكنة والجبال السوداء والصمت الرمزي للطبيعة تعكس الحزن والغياب. فالشاعرة كريمة الحسيني في “مواويل عشق وشجن ” تُظهِر قدرة عاطفية عالية على تجسيد النفس في الطبيعة، مما يجعل القارئ يشعر بالاندماج بين الحالة النفسية والحياة الطبيعية، ويكشف عن قوة الحب وتأثيره العميق على إدراكها للعالم المحيط بها، وليست بعض القصائد التي تناولت حال الوطن والسياسة إلا من هذا الوعي وإدراك هذا العالم.

                                        د. طارق العريفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

slot gacor

joker gaming