آخر الأخبار

ملحمة العاشر من رمضان: إرادة الصّامدين ونصر المُؤمنين

بقلم. أحمد محمد عبد الوهاب

في فجر العاشر من رمضان عام 1393هـ، الموافق السادس من أكتوبر 1973، كتب أبطال مصر بأحرف من نور ملحمةً خالدة في سِفر التاريخ، لُـمّعت دماؤُهم الطاهرة تراب سيناء، وارتفعت أرواحُهم الشاهدة شاهدةً على أن الإيمان بالله والعزيمة تصنعان المستحيل. لقد خاض الجندي المصري معركته المصيرية وهو صائم، متسلحًا بإرادة لا تعرف الانكسار، فكان النصرُ حليفَ تضحياته، وتاجًا على جبين أمّةٍ عربيةٍ توحدّت تحت راية الحرية.

بعد نكسة 1967، التي احتلت فيها إسرائيل شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، عاشت الأمة حالةً من الألم والوجع، لكنها لم تستسلم. بدأت مصر رحلة إعادة البناء العسكري والمعنوي، فشُيدت القوات المسلحة بعقول مصرية مبدعة، وتخطيط استراتيجي دقيق، تحوّل فيه الهزيمة إلى درسٍ استنهض الهمم. وفي ظل ظروفٍ دوليةٍ معقدة، قررت القيادة المصرية، بالتعاون مع السورية، استرداد الأرض والكرامة في توقيتٍ مفاجئ، اختير يوم الغفران اليهودي (يوم كيبور) ليكون عنوانًا لانتصارٍ رمضاني.

كان تحطيم خط بارليف – الذي وُصِفَ بأنه “حصين لا يقهر” – التحدي الأكبر. لكنّ المهندسين العسكريين المصريين وجدوا الحلَّ بالماء، مستخدمين مضخاتٍ قوية لفتح ثغرات في الساتر الترابي، بينما انطلق الجنود بعبور قناة السويس تحت وابل النيران، حاملين معهم إيمانًا بأن “نصر الله قريب”. لم تكن المعدات وحدها سلاحَهم، بل روحٌ معتزة بإسلامها، وقلوبٌ تواقة للشهادة. يقول أحد الجنود في شهادته: “صُمنا رمضان جوعًا وعطشًا، لكن قلوبنا كانت تشبع بإيمانٍ أننا على حق.

لم يكن اختيار شهر رمضان لتوقيت المعركة مصادفةً، فالشهر الذي شهد أعظم انتصارات الأمة الإسلامية، مثل غزوة بدر، كان رمزًا لاستحضار القوة الروحية. لقد صام الجنود أيامًا وهم يستعدون للمعركة، فكان الصوم دافعًا لقهر الضعف، وتذكيرًا بأن النصر يأتي بصبر المؤمنين. حتى إن الرئيس أنور السادات ذكر في مذكراته: “كان الجندي المصري يصوم عن الطعام والشراب، لكنه لم يصُم عن قتال العدو”.

لم تكن المعركة مجرد عملية عسكرية، بل كانت إعادةً لكرامة أمّة. سقط الشهداء بأرواحهم الطاهرة لترتفع راية الوطن، وتحققت معجزة عسكرية أذهلت العالم، حينما اخترقت القوات المصرية في ساعاتٍ ما وُصِفَ بــ”حائط السد الإسرائيلي”. كان النصر رسالةً مفادها أن الأمم لا تُهزم إلا حين تتنازل عن إرادتها، وقد قدّم أبطال مصر درسًا في أن الدم يُحرّر الأرض، والإصرار يُعيد الحقوق.

اليوم، وبعد نصف قرن، تبقى ذكرى العاشر من رمضان شعلةً تُضيء درب الأجيال. فهي تذكير بأن التحديات تُهزم بالإعداد الجادّ، والإيمان العميق، والوحدة الوطنية. لقد أثبت المصريون أن المعجزات تُصنع بإرادة البشر حين تتوافق مع إرادة الله، وأن التاريخ يُكتب بدماء الشرفاء.

تحيةً لأرواح الشهداء الذين رووا بدمائهم طريق الحرية، وللناجحين الذين حوّلوا الهزيمة إلى انتصار، ولأمةٍ توقظها دماءُ الأبطال كلما حاول الظلام اختراقَ عزيمتها. لقد صنع أجدادُنا المجدَ بصبرهم، وعلينا أن نحفظه بإخلاصنا.

#

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *