تربية الروح منهاج حياة بقلم أ.د.إبراهيم حجاج
تربية الروح منهاج حياة، خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان مركبًا من عنصرين مهمين، عنصر المادة الأرضي، وعنصر الروح السماوي، ، يقول تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).
وجاءت شريعتنا الغراء لتخلق التوازن والاعتدال بين هذين الجانبين، في نظام بديع، وتوجيه محكم، حتى لا يطغى جانب على آخر، فيضل الإنسان ويشقى، ويخرج من دائرة الوسطية والاعتدال، وهو ما يطلق عليه التربية الروحية التى تعنى تحقيق التوازن فيما بين متطلبات الروح واحتياجات الجسد.
فالإنسان مطالب بتحقيق التوازن والاعتدال في حياته اليومية: بين العبادات والمباحات، فالإسلام جعل من تربية الروح منهج حياة، يريد أن يذكي الشعلة المقدسة التي يشتمل عليها الإنسان من روح الله فتظل على الدوام مضيئة موصولة بنور خالقها.
وإليك ما ورد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبي، يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا، كأنهم تقالُّوها (أي: عدُّوها قليلة)! فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِر، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ إليهِم، فَقالَ: “أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي” رواه البخاري ومسلم، وهذا يعد من أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي.
لأنه إذا طغى جانب المادة على حياة الإنسان، وصار مصدرا لانطلاقه في هذه الحياة، وأهمل الجانب الروحي، فإنه في هذه الحالة يهبط إلى مستوى البهائم، أو أضل(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) فأشقى الناس من جعل إلهه هواه ، وكما يعلمنا الحبيب المصطفى من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ) رواه البخاري.
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم حريص على تنشئة المجتمع على القيم الدينية التى تقوى الروابط الروحيه فنجده فى تعليم وتوجيه الشباب فى اختيار الزوجة الصالحة التى تعينه على تزكية الروح فيقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح:(تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك) فليكن همك الوحيد هو صلاح دينها، فإذا كان مع ذلك جمال ومال وحسب؛ فهذا خير إلى خير، طيب، لكن لا يكون همك الجمال، أو المال، أو الحسب، لا. فليكن أكبر الهم، وأعظم القصد صلاح الدين، واستقامة الأخلاق.
وفى اختيار الزوجه لزوجها قال صلى الله عليه وسلم: ” إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ” رواه الترمذي وغيره.
وفى ذلك إشارة واضحة على أن صلاح الأسرة وقيامها على الدين يقيها ويقى أبناءها من الانحرافات الاجتماعية التى أصبحت منتشرة فى مجتمعاتنا فى الآونة الأخيرة .
ومن أبواب تربية الروح بل وأهمها من وجهة نظرى فى هذه الأيام هى مرافقة الصالحين ، وفى ذلك حثنا القرآن الكريم فى العديد من الآيات الكريمة على مرافقة الصالحين ، وتُحذّر من شر رفيق السوء، حيث قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)، وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ)، وقال -تعالى-: (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُم تُريدُ زينَةَ الحَياةِ الدُّنيا وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا).[٨] قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً.(
كما جاء في السنّة النبويّة العديد من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على اختيار الرفيق الصالح وتذكر صفاته، وتحذّر من اختيار رفيق السوء، ومنها قال رسول الله ﷺ (إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ قالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، قالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وهو أعْلَمُ منهمْ- ما يَقولُ عِبادِي؟ قالوا: يَقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ)
كما قال رسول الله ﷺ (إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً(
وقال رسول الله ﷺ (المَرْءُ على دِينِ خَليلِه، فَلْينظُرْ أحَدُكم مَن يُخالِلْ) وقال رسول الله ﷺ (لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ)، وقد كانت صحبة النبي الكريم مع أبي بكر الصديق في السيرة النبويّة خير مثال على الصحبة الصالحة؛ وهي صُحبة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لأبي بكر الصديق -رضيَ الله عنه-، فكان خير رفيق ومساند له، حيث صدّق النبي بكل ما جاء به، وكان رفيقه بالهجرة.
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (عليكم بالإخوان فإنّهم عّدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمعوا إلى قول أهل النّار: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)، وروى عن مالك بن دينار قال: (لم يبق من روح الدنيا إلاّ ثلاث: لقاء الإخوان، والتهجّد بالقرآن، وبيتٍ خالٍ يُذكر اللهُ فيه) ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وروي عن الشافعي أيضاً معناه: (لولا القيامُ بالأسحار، وصحبةُ الأخيار، ما أخترت البقاءَ في هذه الدار)، وقال سعيد بن المسيب كما في شعب الإيمان للبيهقي: (كتب إليَّ بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بإخوان الصدق فكن في إكتسابهم فإنهّم زينةٌ في الرَّخاء، وعدّةٌ عند عظيم البلاء)، وروى الشيخان عن أبي موسى أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إنّما مثلُ الجليسُ الصالحُ والجليسُ السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يُحذيَك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكيرِ إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحاً خبيثه(
إن المجالسةَ والمصادقة والزيارة في الله سبب لمحبة الله تعالى، كما في الحديث القدسي: (وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ)، ومن ثمرات مجالسة الصالحين أنها تؤدي إلى محّبتهم في الله، والحبُ في الله له ثمرات عظيمة، منها: حب اللهِ للعبد، وأن الله يظله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه، فأنه دليل كمال الإيمان عند العبد، وأنه سببٌ لذوق حلاوة الإيمان.
ولنا في أقطاب التربية الروحية، والتصوف السني الصحيح خير مثال على ذلك، فلقد كان أبو حامد الغزالي سيدا في الدنيا، وإماما في الدين، ملأ الأرض عبادة وعلما وعملا، وأصبح الإسلام بأمثال أولئك الأعلام يستقطب مختلف الفئات والأعمار، ممن أصبحوا يعيشون أزمة نفسية حادة، ينشدون فيه الطمأنينة الروحية وسلامة الاعتقاد، مما جعل المفكرين الغربيين أنفسهم يولون هذه الظاهرة الحضارية عناية كبيرة، ويضعون دراسات ومؤلفات عن التربية الروحية في الإسلام.
صدق الله و صدق رسوله الكريم صلي الله عليه و سلم و احسنت القول يا استاذنا و قدوتنا ما شاء الله زاد اللهم حضرتك علما و نورا و حبا في رسول الله