
الويل للمهزوم.. لحظة تاريخية فارقة، صنعها مشهد عالمي مرتبك شرقا وغربا، صتع جانبا منه ذلك “التاجر المقاول” العائد للبيت الأبيض، وراح يعبث بمقدرات الشعوب ومصائرها وأرضها يمنح الحياة و”الجحيم” لمن يعارض صفقاته الخارجة عن حسابات المنطق والسياسة، بل واللياقة والدبلوماسية.
خلال ساعاته الأولى، في موقعه الجديد القديم، أبى ترامب أن يخلع ثوب السمسار العقاري والمستثمر الرأسمالي، وتفاخر بإصدار عشرات الأوامر الرئاسية التنفيذية، تحقيقا لبرنامجه الانتخابي الراديكالي الذي أراد به تغيير صورة العالم، تارة بمنع المساعدات عن الجميع، وأخرى بفرض قيود حدودية وطرد للمهاجرين، وثالثة برسوم إغراق ومنع صادرات، وكانت الطامة بإعلان احتلال -أسماه سيطرة- أرض تسمى قطاع غزة وطرد شعب يسمى الفلسطينيون.
بشرى وقف الإبادة والمجازر على الهواء مباشرة في غزة التي سوقها ترامب كأولى إنجازاته في ولايته الثانية، والتي لطخت سمعة سلفه بايدن، ذهبت أدراج الرياح بمقترح “ريفيرا الشرق الأوسط” المجنون وغير الواقعي الذي لم يقنع حتى الإسرائيليين أنفسهم بجديته، ولكنه لم يمنع نتنياهو من ركوب موجة الأحلام التي تنقذ سفينة حكومته الغارقة سياسيا في بحور من الفشل.
أخذ ترامب صديقه نتنياهو في جانب، ووضع المجتمع والقانون الدوليين في جانب آخر، وكيف لا وقبلها بأيام فرضت إدارته عقوبات على أعلى هيئة عدالة دولية –المحكمة الجنائية الدولية- بعد أن وضعت مجرم الحرب الإسرائيلي وزبانيته في موضع المساءلة الدولية، وأظهر “المقاول” أنه لا يعير الحلفاء أو المصالح أو القانون الدولي أو العدالة أي اهتمام، فكل شيء في منطقه يباع ويشترى.
ربما كان عالمنا العربي بحاجة لهذه الصدمة الترامبية ليستفيق، ويظهر قوته ووحدته أمام هذا التحدي التاريخي لقضيته المركزية –القضية الفلسطينية- ويصدر عنه موقف يواجه هذا الجموح والتهور الامريكي غير المسبوق، وهنا ظهر الكبار في مواقفهم مصر والسعودية وأيضا الأردن برفض هذا المقترح جملة وتفصيلا، والتمسك بإعادة إعمار الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح الأمريكي.
إن قمة الرياض المزمعة في العشرين من فبراير الحالي ليست اجتماع حرب بطبيعة الحال، ولا يجب أن تكون قمة دبلوماسية بروتوكولية لمناقشة خطة ترامب المجنونة، بل قمة عقل يواجه تهور ترامب، ويعيده لصوابه بموقف ثابت وواضح تبرز فيه الدول العربية الفاعلة أوراق قوتهان وتخاطب الإدارة الأمريكية باللغة التي تفهمها وهي ان مصالحها قد تكون في خطر، كما أن لا المحفزات الاقتصادية لمصر والأردن، ولا التهديدات بقطع المساعدات وإشعال “الجحيم” في المنطقة هي التي ستصنع الموقف العربي إزاء تهديد مصيره ودوله.
لغة العقل التي لا يعرفها ترامب بدأت بحديث القاهرة عن اعتزامها طرح تصور متكامل لإعادة إعمار قطاع غزة، بصورة تضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وبما يتسق مع الحقوق الشرعية والقانونية لهذا الشعب.
وفي ذلك بدا الموقف العربي –حتى اللحظة- واحدا ومتماسكا ومتوافقا مع الشعور العربي العام الناقم على إسرائيل والعجرفة الأمريكية، ليكون القادة العرب وشعوبهم صفا واحدا وفي خندق مشترك يواجه محاولات مسخ التاريخ وفرض الوصاية ونوع جديد من الاستعمار في ثوب الاستثمار والمقاولات.
فلسطين أرض وشعب قائمة وستكون لهم دولتهم شاء ترامب أو أبى، ليس بمواقف عنترية وتصريحات شعبوية، ولكن بحكمة التاريخ وصدقية الموقف وصلابته مستندا لحقوق لا يملك أحد التنازل عنها، ومن يحيد عن ذلك فلن يرحمه الحاضر ولن ينصفه التاريخ.
فالويل للمهزوم كما قال الرومان قديما.. ليس المهزومون في المعركة الذين يقعون تماماً تحت رحمة المنتصرين، وعليهم ألا يتوقعوا أو يطلبوا تسامحاً، ولكنهم من يهزمون تاريخيا أما مبادئهم وحقوقهم، وليذهب التاجر ومقترحه إلى الجحيم الذي لا يزال يهدد به العالم والمنطقة.